رد: كل يوم ايه مع تقسيرها (سورة البقره )
الاية
(( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ )) 67
===============
التفسير
قوله تعالى : وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة فيه اربع مسائل :
الأولى : قوله تعالى : إن الله يأمركم حكي عن ابي عمرو أنه قرأ : يأمركم بالسكون ، وحذف الضمة من الراء لثقلها . قال أبو العباس المبرد : لا يجوز هذا لأن الراء حرف الإعراب ، وإنما الصحيح عن ابي عمرو أنه كان يختلس الحركة . أن تذبحوا في موضع نصب بـ يأمركم ، أي بأن تذبحوا . بقرة نصب بـ تذبحوا . وقد تقدم معنى الذبح ، فلا معنى لإعادته .
الثانية : قوله تعالى : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة مقدم في التلاوة ، وقوله : قتلتم نفسا مقدم في المعنى على جميع ما ابتدأ به من شأن البقرة . ويجوز أن يكون قوله : قتلتم في النزول مقدما ، والأمر بالذبح مؤخراً . ويجوز أن يكون ترتيب نزولها على حسب تلاوتها ، فكأن الله أمرهم بذبح البقرة حتى ذبحوها ثم وقع ما وقع من أمر القتل ، فأمروا أن يضربوه ببعضها ، ويكون وإذ قتلتم مقدماً في المعنى على القول الأول حسب ما ذكرنا ، لأن الواو لا توجب الترتيب . ونظيره في التنزيل في قصة نوح بعد ذكر الطوفان وانقضائه في قوله : حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين إلى قوله : إلا قليل . فذكر إهلاك من هلك منها ثم عطف عليه بقوله : وقال اركبوا فيها بسم الله مجريها ومرساها . فذكر الركوب متأخر في الخطاب ، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك . وكذلك قوله تعالى : الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا . وتقديره : أنزل على عبد الكتاب قيماً ولم يجعل له عوجاً ، ومثله في القرآن كثير .
الثالثة : لا خلاف بين العلماء أن الذبح أولى في الغنم ، والنحر أولى في الإبل ، والتخير في البقر . وقيل :الذبح أولى ، لأنه الذي ذكره الله ، ولقرب المنحر من المذبح . قال ابن المنذر : لا أعلم أحداً حرم أكل ما نحر مما يذبح ، أو ذبح مما ينحر . وكره مالك ذلك . وقد يكره المرء الشيء ولا يحرمه . وسيأتي في سورة المائدة أحكام الذبح والذابح وشرائطهما عند قوله تعالى : إلا ما ذكيتم مستوفى إن شاء الله تعالى . قال الماوردي : وإنما أمروا ـ والله أعلم ، بذبح بقرة دون غيرها ، لأنها من جنس ما عبدوه من العجل ليهون عندهم ما كان يرونه من تعظيمه ، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته . وهذا المعنى علة في ذبح البقرة ، وليس بعلة في جواب السائل ، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حي ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها .
الرابعة : قوله تعالى : بقرة البقرة اسم للأنثى ، والثور اسم للذكر ، مثل ناقة وجمل ، وامرأة ورجل . وقيل : البقرة واحد البقر ، الأنثى والذكر سواء . وأصله من قولك : بقر بطنه ، أي شقه ، فالبقرة تشق الأرض بالحرث وتثيره . ومنه الباقر لأبي جعفر محمد بن علي زين العابدين ، لأنه بقر العلم وعرف أصله ، أي شقه . والبقيرة : ثوب يشق فتلقيه المرأة في عنقها من غير كمين . وفي حديث ابن عباس في شأن الهدهد فبقر الأرض . قال شمر : بقر نظر موضع الماء ، فرأى الماء تحت الأرض . قال الأزهري : البقر اسم للجنس وجمعه باقر . ابن عرفة : يقال بقير وباقر وبيقور . وقرأ عكرمة وابن يعمر إن الباقر . والثور : واحد الثيران . والثور : السيد من الرجال . والثور القطعة من الأقط . والثور : الطحلب . وثور : جبل . وثور : قبيلة من العرب . وفي الحديث :
ووقت العشاء ما لم يغب ثور الشفق يعني انتشاره ، يقال : ثار يثور ثوراً وثوراناً إذا انتشر في الأفق . وفي الحديث :
من أراد العلم فليثور القرآن . قال شمر : تثوير القرآن قراءته ومفاتشة العلماء به .
قوله تعالى : قالوا أتتخذنا هزوا هذا جواب منهم لموسى عليه السلام لما قال لهم : إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة وذلك أنهم وجدوا قتيلاً بين أظهرهم ـ قيل : اسمه عاميل ـ واشتبه أمر قاتله عليهم ، ووقع بينهم خلاف ، فقالوا : نقتتل ورسول الله بين أظهرنا ، فأتوه وسألوه البيان ـ وذلك قبل نزول القسامة في التوراة ، فسألوا موسى أن يدعو الله ـ فسأل موسى عليه السلام ربه فأمرهم بذبح بقرة ، فلما سمعوا ذلك من موسى وليس في ظاهرة جواب عما سألوه عنه واحتكموا فيه عنده ، قالوا : اتتخذنا هزؤا ؟ والهزء : اللعب والسخرية ، وقد تقدم . وقرأ الجحدري أيتخذنا بالياء ، أي قال ذلك بعضهم لبعض فأجابهم موسى عليه بقوله : أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين لأن الخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء جهل ، فاستعاذ منه عليه السلام ، لأنها صفة تنتفي عن الأنبياء . والجهل نقيض العلم . فاستعاذ من الجهل ، كما جهلوا في قولهم : أتتخذنا هزؤاً ، لمن يخبرهم عن الله تعالى ، وظاهر هذا القول يدل على فساد اعتقاد من قاله . ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته ، وقال : إن الله يأمرك بكذا ـ : اتتخذنا هزوؤاً ؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى الله عليه وسلم لوجب تكفيره . وذهب قوم إلى أن ذلك منهم على جهة غلط الطبع والجفاء والمعصية ، على نحو ما قال القائل للنبي صلى الله عليه وسلم في قسمة غنائم حنين :
إن هذه لقسمة ما أريد بها وجه الله . وكما قال له الآخر : اعدل يا محمد . وفي هذا كله أدل دليل على قبح الجهل ، وأنه مفسد للدين .
قوله تعالى :هزوا مفعول ثان ، ويجوز تخفيف الهمزة تجعلها بين الواو والهمزة . وجعلها حفص واواً مفتوحة ، لأنها همزة مفتوحة قبلها ضمة فهي تجري على البدل ، كقوله : السفهاء ولكن ويجوز حذف الضمة من الزاي كما تحذفها من عضد ، فتقول : هزؤاً ، كما قرأ أهل الكوفة ، وكذلك ولم يكن له كفوا أحد . وحكى الأخفش عن عيسى بن عمر : أن كل اسم على ثلاثة أحرف أوله مضموم ففيه لغتان : التخفيف والتثقيل ، نحو العسر واليسر والهزء . ومثله ما كان من الجمع على فعل ككتب ، ورسل ورسل ، وعون وعون . وأما قوله تعالى : وجعلوا له من عباده جزءا فليس مثل هزء وكفء ، لأنه على فعل من الأصل . على ما يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى .
مسألة : في الآية دليل على منع الاستهزاء بدين الله ودين المسلمين ومن يجب تعظيمه ، وأن ذلك جهل وصاحبه مستحق للوعيد . وليس المزاح من الاستهزاء بسبيل ، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمزح والأئمة بعده . قال ابن خويز منداد : وقد بلغنا أن رجلاً تقدم إلى عبيد الله بن الحسن وهو قاضي الكوفة فمازحه عبيد الله فقال : جبتك هذه من صوف نعجة أو صوف كبش ؟ فقال له : لا تجهل أيها القاضي ! فقال له عبيد الله : وأين وجدت المزاح جهلاً ! فتلا عليه هذه الآية فأعرض عنه عبيد الله ، لأنه رآه جاهلاً لا يعرف المزح من الاستهزاء ، وليس أحدهما من الآخر بسبيل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
|