النّفوس الغنيّة ..

[حصن الوادي]

أجساد نحيلة جافة تُزهر حُباً وفرحاً ،، و وجوه متجعّدة شاحبة تقطر وقاراً وحياءً ،، وأكُفٌ متقطّعة متشقّقة تندى بالعطاء.

أمانيهم الأجر والجنة ،، وآمالهم القالات والأمداح ،، وطموحاتهم إكرام ضيف ونصرة ضعيف وإيواء جار وطرد عار.

ليس لديهم من متاع الدنيا إلا المُتعة والفرح ،، فالزير صديقهم ،، والرقص لغتهم ،، والغناء أنفاسهم.

في تلك الأيام الشداد الملاح ..
كان ذلك الابن النحيل ذو الثمانية عشر ربيعاً (ككل الأبناء في زمن الهكبة).
سافر واغترب عن الديره بحثاً عن لقمة عيش يسد بها رمقه ،، وتوفير ما يستطيع من مال ليرسله إلى (الشيبه) في الديرة ،، لعلّه يتفكّك (الركايب) المرهونة في (أمداد شعير) ،، ولعلّه يحفظ ما تبّقى من (ماء وجه الشيبه المتصحّر) من غلبة الدين و من شدة الفقر والفاقة.

توجه إلى بطحان (بيدة) وما عنده إلا وجه الله الكريم ثم (ثوبه في حلقه) ،، ليجد في قرية بيدة من (يكري عليه بالآجل) مع أصحاب السيارات.

سافر إلى الرياض ،، فأراد الله أن يفتح عليه بعمل بسيط جمع منه بعض المال الذي بدأ به تحقيق الحلم ومشروع العمر ونقطة التحول ،، قبل أن يقتل (الشيبه) تلك الطموحات والأمنيات.
.................

كانوا الناس بمثابة (الإتصالات والبريد) ،، فأخبار أبناء الجماعة يعرفونها زهران من قاصيها إلى دانيها ،، فالناس قليلين و قلوبهم على بعض.

عاد أحد أفراد الجماعة من الرياض ،، وما أن سمع (الشيبه) بالخبر حتى ذهب إليه (مُسلّماً و مُحيّياً) ولعله يلتمس أخبار ابنه المغترب.

وصل الشيبة و أعطى العلوم وأخذ العلوم.
ثم سأل عن ابنه ،، و ما آل إليه أمره!!؟؟

فأخبره ذلك الرجل المسافر بأن أمور ابنه تيسّرت و كربه انفرجت.
و قال: آهو ولدك فلان (بسط له مطعم).

ولكن هذه البشارة لم يتمنّ سماعها الشيبه ،، (خبرٌ كالصاعقة).
بـ صيوان أذنه الكريمة سمعها الشيبه ،، فدقّت طبلة أُذنه طبول الشيمة والكرم إيذاناً بالحرب على هذا (الابن البخيل) كما ترجمها (عقل الشيبه).
....................

أنصرف الشيبه إلى منزله يجر أذيال خيبة الأمل .. خيبة الأمل فيما ربّى عليه ابنه من كرم وشهامة ،، ولسان حاله يقول (بنغدي هروج عصريّة في زهران).

بات تلك الليلة (يفترش جمر الشرهه ،، ويلتحف زمهرير الفشيله) .. في تصوره.

لينطلق صباحاً إلى بيده ،، في رحلة اللحاق بأبنه البخيل.

سافر الشيبه ،، يكابد العناء والألم ووعورة الطريق وطول المسافة إلى الرياض في تلك السيارات المتهالكة.
فقد بلغ من العمر عتيّا .. وجسده النحيل لا يحتمل تلك المطبات والبطانيج (أخذ في حياته نعمه).
تشويه الشمس وتلفحه السموم لمدة 7 أيام حتى وصل الرياض.

وصل وقت الضحى ،، وسأل عن (عزبة الزهارين) .. فأخبروه بمكانها ،، ثم توجها إليها.

لم يجد في تلك العزبة (الصندقة) إلا رجل واحد لم يحالفه الحظ في الحصول على عمل ،، أمّا البقية فكلٌ في فلكه يسبح (اللي يشتغل حمّال ،، واللي يوزع ثلج ،، واللي يسقي ،، واللي سوّاق وما أدراك ما السواق).

سأل الشيبه ذلك الرجل .. وين ولدي فلان!؟
فأجابه الرجل: بأن ابنه في مطعمه.

قال الشيبه: ودّني له .. فذهبوا.
وصلوا المطعم ،، ودخل الشيبة (وانفزر وسط المطعم).
وما إن رآه الابن حتى صرخ (أبيييييييه) .. يالله حيّه .. يا نا فدى من بدى .. ثم انطلق ليصافح ويحتضن والده.

ولكن الشيبه تعزوى وتنحّى عن ابنه وقال: تخسى وتعقب ماني أبوك.
فما كان من الابن إلا أنْ انحنى وبكى .. وسأل أبوه : يبه .. وش سوّيت علشان تتبرّى منّي!!؟؟

قال الشيبه: ((( نحن زهران .. ما نبيع الأكل ))) .. إن جانا ضيف أكرمناه .. وإن جانا فقير تصدقنا عليه.
وأنت تبيع الأكل !!!!؟؟؟؟

فما كان من الأبن إلاّ أن قام بتقبيل المطعم (باع المطعم) ،، رضاءً لله ثم للشيبه.

فرضي الشيبه .. ثم عاد أدراجه إلى الديرة في صباح اليوم التالي ،، بعد أن ذبّ عن سمعته وسمعة العائلة وسمعة زهران كافة.
عاد (الشيبه) منتصراً على البخل والعار ،، ولكنّه يعلم يقيناً بأنه سيواصل معركته مع (الدّاينة) من جديد ولكن في ساحة الشرف.

***انتهى***
..............................

بطل قصتنا (الأبن) ترك تلك التجارة المُباحة شرعاً .. والمُحرمة عُرفاً في قانون الكرماء الأصخياء .. كل ذلك لرضى الله ثم رضى الشيبه.
فعوّضه الله خيراً منها ،، فأصبح بعد فترة من الزمن تاجر ذهب و وكيل إحدى شركات الساعات العالمية في السعودية (يعني مليونير).
....................

لم أبالغ في هذه القصة .. و أبطالها من الديرة الشرقية لزهران.
فليست غريبة على أولائك الكرماء الأصخياء في زمن الجوع .. أولائك الذين يدّخرون أجود ما تنتجه مزارعهم ليكرموا به ضيوفهم .. بينما يأكلون وأهليهم أردأ ما تنتجه تلك المزارع .. فكانوا يستشعرون الآية الكريمة {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون}.

وليست غريبة على من كان (الحجاج) يربطون (أكياس زادهم) منذ دخولهم لبلاد زهران حتى الخروج منها .. فهم في ديار الكرم والجود ،، فلقد قرأت هذه المعلومة في أكثر من كتاب وسمعتها من أكثر من رجل.
................

كل الود والحب ،، وأطيب الأماني..

[الراس الصغير]

قال الشيبه: ((( نحن زهران .. ما نبيع الأكل ))) .. إن جانا ضيف أكرمناه .. وإن جانا فقير تصدقنا عليه

دخلت المنتدى وطبيت على هذه القصه النادره
كيف لا ومن نثر حروفها وصاغ معانيها يمتاز باسلوبه النادر والشيق
قراتها قصتك وكاني اقراء في كتب الاولين ,,


بيض الله وجهك حصن الوادي ..
ابدعت في السرد ولاهناك سرد يوازي سردك في كتابة القصص عن زمان




تقبل احترامي يا النشمي .

[حصن الوادي]

اقتباس: المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الراس الصغير      قال الشيبه: ((( نحن زهران .. ما نبيع الأكل ))) .. إن جانا ضيف أكرمناه .. وإن جانا فقير تصدقنا عليه دخلت المنتدى وطبيت على هذه القصه النادره كيف لا ومن نثر حروفها وصاغ معانيها يمتاز باسلوبه النادر والشيق قراتها قصتك وكاني اقراء في كتب الاولين ,, بيض الله وجهك حصن الوادي .. ابدعت في السرد ولاهناك سرد يوازي سردك في كتابة القصص عن زمان تقبل احترامي يا النشمي .

حيّا وأهلا وسهلا .. بالراس الكبير الصلب الشامخ.

أنّ جمال الكلمة لا يكمن فقط في محتواها وإنما في جمال (الذائقة) التي تقرأها..
ذائقة بحجم رقيك يا عزيزي ،، ورقي الارواح الجميلة لأعضاء هذا المنتدى ..

من الجمال يا صديقي أن يغني الانسان ،، و لكن الأجمل أن يسمع صدى صوت غنائه .. و ردودك الأنيق المنمّق هو جمال هذا الصدى .. والذي أرتدّ إليّ من قمم روحك ومشاعرك الشامخة الشاهقة.

أشكر و أُثمّن ردك العزيز جداً على قلبي ،، و أشكر العيون التي زيّنت كلماتي بالنظر إليها.
.................

لي هدف لدخولي المنتدى ،، ولعل الجميع لمسه.

ما نكتبه اليوم عن الماضي للمتعه والتسليه سيصبح غداً تاريخ يُعتدّ به لباحث أو استشهاد لحفيد يفاخر بأجداده.

وما اكتبه بلهجة الأجداد الأصيلين ،، هو جزء من توثيق هذه اللهجة العربية الأصيلة لحقبة سكنت هذه الجبال الشواهق.

لا يعنيني في كتابة هذه القصص (الإغراق اللغوي) بقدر ما تعنيني الفكرة وبقدر ما يعنيني توثيق جزء من اللغة الأصلية السهلة لأجدادنا.
..................

أتمنى أن لا تقتصر نضرتنا على الكرم في (إطعام الطعام)..
فالكلمة الجميلة .. كرم.
والإبتسامة .. كرم.
وخدمة المحتاج .. كرم.
واللين واللطف .. كرم.

ولكنّي استشهدت بإطعام الطعام في هذه القصة ،، لكون أحداثها جرت في (زمن غابر وأيام فقر مُدقع) كان للقمة فيها طعم وفاقه ،، وكانت قيمة الرجل المادية هو ما يحتويه (سفل البيت) من كمّية حبوب يكرم بها ضيفه ويسد بها رمق أهل بيته.
.............

لك جلّ الشكر و وافره أيُّها الكريم ،، على المرور و على الإطراء الذي لا أستحقّه.

[حصن الوادي]

شكراً جزيلاً لكل من مرّ من هنا بصمت ،، وشرّفني بقراءة هذا الموضوع.

وشكراً جزيلاً مُقدماً لكل من سيمر من هنا ..

الله يحفظكم.

[نسيم السروات]

قصة جميلة ورائعة تحكي صفات أجدادنا النادرة التي قلما تتكرر في هذا الزمن

الله درهم ما أعظمهم وما أعظم صفاتهم النبيلة . وبالمقابل ما أجمل سرد هذه القصص

الرائعة من قلم بارع يسردها مثل سلاسل الذهب لها بريق أخاذ ومعاني جميلة تسرح بالذاكرة

إلى روح الماضي وعبقة العريق .

شكرا جزيلا على هذا العطاء أخونا الحصن بارك الله فيك .

[حصن الوادي]

اقتباس: المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نسيم السروات      قصة جميلة ورائعة تحكي صفات أجدادنا النادرة التي قلما تتكرر في هذا الزمن الله درهم ما أعظمهم وما أعظم صفاتهم النبيلة . وبالمقابل ما أجمل سرد هذه القصص الرائعة من قلم بارع يسردها مثل سلاسل الذهب لها بريق أخاذ ومعاني جميلة تسرح بالذاكرة إلى روح الماضي وعبقة العريق . شكرا جزيلا على هذا العطاء أخونا الحصن بارك الله فيك .

أهلاً بالاستاذه نسيم السروات.

لله ثم للتاريخ ثم لك .. بطل قصتنا من بني بشير ،، ولولا حفظ الخصوصية و عدم إنتهاكها لصرّحت بالأسماء.
.......................

أما القصة فهي تُكتب بماء الذهب كما اسلفتي نسيم.
ولكن كاتبها لا يزال يتهجّأ الحرف و يفكّ الخط في كُتب التاريخ المجيد لساكني هذه الأرض البيضاء في زمنٍ من الماضي الأغبر.
.................

جُل الإمتنان ،، وجزيل الشكر لك يا النسيم العليل.

[شذى الريحان]

من أرضى والديه مؤكد كفة حسناته راجحة
ومن ترك شيئا إرضاء لوالديه في غير معصية عوضه الله خيراً

الحقيقة ادهشتني القصة!!


لك باقات من الشكر والتقدير
أجمل تحية

[حصن الوادي]

اقتباس: المشاركة الأصلية كتبت بواسطة شذى الريحان      من أرضى والديه مؤكد كفة حسناته راجحة ومن ترك شيئا إرضاء لوالديه في غير معصية عوضه الله خيراً الحقيقة ادهشتني القصة!! لك باقات من الشكر والتقدير أجمل تحية

أهلاً وسهلاً أختنا شذى الريحان.

نعم يا شذى ،، فقد عوّض الله هذا الأبن البار برزق واسع غزير أضحى منه مليونير.

أرضى والده فيما يتمنّى ويحب (الكرم) ،، وترك تلك التجارة المباحة شرعاً والمحرمة عرفاً في قانون الكرماء.
................

شكراً جزيلاً شذى الريحان على هذا المرور الزاهر ذو اللون الزاهي والرائحة الزكيّة.

ولك حُزم.. ريحان وبرك وكادي وشيح.

[حصن الوادي]

في لحظة نقاء وصفاء روحي أرسلت هذا الموضوع "برسالة واتساب" لشقيق قلبي وصديق طفولتي ومستودع سرّي.
وتفاجأت به اليوم يرسل لي رابط الموضوع على صحيفة الجزيرة الثقافية "كفح المواص ونكت الخريطه".

المشكله نزل صورتي الشخصيه وأنا فاغر(ن) .. لكن والله ياللي فاغرن أنه فاغرن ألين يموت.

http://www.al-jazirah.com/2017/20170722/cm7.htm

[ضي العين]

راائع اسلوب قصصي مشوق ونادر
وصراااحه اعجز عن التعبير عن مدى اعجابي
بطريقة التشويق والجذب للقاريء واجباره على المتابعه
ولكن لاأعجز أن أقول أني كزهرانيه أفتخر بوجود أقلام مميزه
وشباب مثقف وواعي مثلك واتمنى لك التفوق والاستمرار للأفضل
تشكراااااااات